فصل: تفسير الآيات رقم (8- 14)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 35‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏31‏)‏ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ‏(‏32‏)‏ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏33‏)‏ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏34‏)‏ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء‏}‏، يعني‏:‏ قل يا محمد للمشركين‏:‏ من يرزقكم من السماء بالمطر‏.‏ ‏{‏والارض‏}‏ ومن الأرض بالنبات‏.‏ ‏{‏أَمَّن يَمْلِكُ السمع والابصار‏}‏، أي من يخلق لكم السمع والأبصار، ‏{‏وَمَن يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت‏}‏؛ ومن يقدر أن يخرج الحي من الميت، يعني‏:‏ الفرخ من البيضة‏.‏ ‏{‏وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى‏}‏، يعني‏:‏ البيضة من الطير، والنطفة من الإنسان، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن‏.‏ ‏{‏وَمَن يُدَبّرُ الامر‏}‏، يعني‏:‏ من يقدر أن يدبر الأمر بين الخلق، وينظر في تدبير الخلائق، ويقال‏:‏ من يرسل الملائكة بالأمر‏.‏ ‏{‏فَسَيَقُولُونَ الله‏}‏ يفعل ذلك كله لا الأصنام، لأن الأصنام لم يكن لهم قدرة على هذه الأشياء‏.‏ ‏{‏فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ الشرك فتوحدونه، إذ تعلمون أن لا يقدر أحد أن يفعل هذه الأشياء إلا الله تبارك وتعالى، ويقال‏:‏ أفلا تتقون أي تطيعون الله الذي يملك ذلك‏؟‏‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحق‏}‏، وغيره من الآلهة باطل ليس بشيء‏.‏ ‏{‏فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال‏}‏، يعني‏:‏ فما عبادتكم بعد ترك عبادة الله تعالى إلا عبادة الشيطان‏؟‏ ويقال‏:‏ فماذا بعد التوحيد إلا الشرك‏؟‏ ‏{‏فأنى تُصْرَفُونَ‏}‏، يعني‏:‏ فمن أين تمتنعون عن الإيمان بالله‏؟‏ ويقال‏:‏ فأنى تصرفون عن هذا الأمر بعد المعرفة‏؟‏ وقال مقاتل‏:‏ فمن أين تعدلون به غيره‏؟‏ ويقال‏:‏ كيف ترجعون عن هذا الإقرار‏؟‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ‏}‏، يعني‏:‏ هكذا وجبت كلمة العذاب من ربك، كقوله‏:‏ ‏{‏وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً حتى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أبوابها وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءايات رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا قَالُواْ بلى ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 71‏]‏ ويقال‏:‏ وجبت كلمة ربك، وهو قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 18‏]‏ قوله‏:‏ ‏{‏عَلَى الذين فَسَقُواْ‏}‏، يعني‏:‏ كفروا بربهم‏.‏ ‏{‏أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏، يعني‏:‏ لا يصدقون بعلم الله تعالى السابق فيهم، ويقال‏:‏ إنَّهم لا يؤمنون يعني‏:‏ لأنهم لا يؤمنون فوجب عليهم العذاب بترك إيمانهم‏.‏ قرأ نافع وابن عامر ‏{‏كلمات * رَبَّكَ‏}‏ بلفظ الجماعة، وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏وَأَوْرَثْنَا القوم‏}‏ وكذلك الاختلاف في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 96‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏، يعني‏:‏ أصنامكم التي تعبدونها، هل يقدرون أن يخلقوا خلقاً من غير شيء ثم يبعثونهم في الآخرة كما يفعل الله تعالى‏؟‏ فإن أجابوك وإلا ف ‏{‏قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏، يعني‏:‏ إن معبودكم لا يستطيع ذلك‏.‏ ‏{‏فأنى تُؤْفَكُونَ‏}‏، يعني‏:‏ من أين تكذبون‏؟‏ ‏{‏قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى الحق‏}‏، يقول هل يقدر أحد من آلهتكم أن يهدي إلى الحق أي يدعو الخلق إلى الإسلام‏؟‏ فقالوا‏:‏ لا‏.‏

‏{‏قُلِ الله يَهْدِى لِلْحَقّ‏}‏، يعني‏:‏ يدعو الخلق إلى الإسلام ويوفق من كان أهلاً لذلك ‏{‏أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ‏}‏، أي من يدعو إلى الحق أحق أن يعمل بأمره ويعبد‏؟‏ ‏{‏أَمَّن لاَّ يَهِدِّى‏}‏ طريقاً ولا يهتدي ‏{‏إِلاَّ أَن يهدى‏}‏، يعني‏:‏ لا يمشي بنفسه إلا أن يحمل من مكان إلى مكان‏.‏ قرأ نافع وأبو عمر ‏{‏أَمَّن لاَّ يَهِدِّى‏}‏ بجزم الهاء وتشديد الدال لأن أصله في اللغة يهتدي فادغم التاء في الدال وأقيم التشديد مقامه؛ وقرأ ابن كثير وابن عامر ونافع في رواية ورش ‏{‏يَهْدِى‏}‏ بنصب الياء والهاء وتشديد الدال، لأن حركة التاء وقعت على الهاء وقرأ عاصم في رواية حفص ‏{‏يَهْدِى‏}‏ بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال لأنه لما اجتمع الساكنان حرك أحدهما بالكسر، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر ‏{‏يَهْدِى‏}‏ بكسر الياء والهاء وتشديد الدال فأتبع الكسرة الكسرة؛ وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏يَهْدِى‏}‏ بجزم الهاء وتخفيف الدال ويكون معناه لا يهتدي‏.‏ قال الكسائي‏:‏ قوم من العرب يقول‏:‏ هديت الطريق بمعنى اهتديت، فهذه خمس من القراءات في هذه الآية‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏‏؟‏ كيف تقضون لأنفسكم‏؟‏ يعني‏:‏ تقولون قولاً ثم ترجعون‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏مَا لَكُمْ‏}‏ كلام تام، فكأنه قيل لهم‏:‏ أي شيء لكم في عبادة الأوثان‏.‏ ثم قيل لهم ‏{‏كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏ أي على أي حال تحكمون‏؟‏ ويقال‏:‏ معناه كيف تعبدون آلهتكم بلا حجة ولا تعبدون الله بعد هذا البيان لكم‏؟‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 43‏]‏

‏{‏وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏36‏)‏ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏37‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏38‏)‏ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ‏(‏39‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ‏(‏40‏)‏ وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏41‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏42‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا‏}‏، يعني‏:‏ لا يستيقنون أن اللات والعزى آلهة بالظن، ومعناه أنهم يتركون عبادة الله تعالى وهو الحق، لأنهم يقرون بأن الله خالقهم فيتركون الحق ويتبعون الظن‏.‏ ‏{‏إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا‏}‏، يعني‏:‏ علمهم لا يغني من عذاب الله شيئاً؛ ويقال‏:‏ ‏{‏وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ما قذف الشيطان في أوهامهم ‏{‏إَنَّ الظن‏}‏ يعني‏:‏ ما قذف الشيطان في أوهامهم لا يستطيعون أن يدفعوا الحق بالباطل‏.‏ ويقال‏:‏ وما يتبع يعني‏:‏ وما يعمل أكثرهم ‏{‏إِلاَّ ظَنّا‏}‏ يظنون في غير يقين وهم الرؤساء، وأما السفلة فيطيعون رؤساءهم ‏{‏إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا‏}‏‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ‏}‏ من عبادتهم الأصنام وما يقولون من القول المختلق والكذب‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ هذا القرءان أَن يفترى‏}‏، يعني‏:‏ لهذا القرآن مختلف ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ تعالى‏.‏ وقال القتبي‏:‏ ما كان هذا القرآن أن يضاف إلى غير الله تعالى أو يختلق، ‏{‏ولكن تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏؛ ولكن نزل بتصديق الذي بين يديه من التوراة والإنجيل؛ ويقال‏:‏ معناه ولكن بتصديق النبي الذي أنزل القرآن بين يديه يعني‏:‏ الذي هو قبل سماعكم، لأن القرآن تصديق لما جاء من أنباء الأمم السابقة وأقاصيص أنبيائهم، يعني‏:‏ بيان كل شيء؛ ويقال‏:‏ بيان الحلال والحرام‏.‏ ‏{‏وَتَفْصِيلَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏، يعني‏:‏ لا شك فيه عند المؤمنين إنه نزل ‏{‏مِن رَّبّ العالمين‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أيقولون‏؟‏ وهم كفار مكة‏.‏ ‏{‏افتراه‏}‏ تقوَّله من ذات نفسه‏.‏ ‏{‏قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ‏}‏، يعني‏:‏ مثل القرآن؛ ‏{‏وادعوا‏}‏، استعينوا على ذلك ‏{‏مَنِ استطعتم‏}‏ ممن تعبدون‏.‏ ‏{‏مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ بأنه تقوَّله من تلقاء نفسه فلما قال لهم ذلك، سكتوا ولم يجيبوا، فنزل قوله‏:‏ ‏{‏بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ‏}‏، يعني‏:‏ القرآن لم يعلموا ما فيه؛ ويقال‏:‏ لم يعلموا ما عليهم بتكذيبهم‏.‏ ‏{‏وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ‏}‏، يعني‏:‏ ولما يأتهم عاقبة ما وعدوا في هذا القرآن، يعني‏:‏ سيأتيهم ما وعد لهم، وهو كائن في الدنيا بالعذاب، وفي الآخرة بالنار‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏، هكذا كذب الأمم الخالية رسلهم‏.‏ ‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين‏}‏، يعني‏:‏ كيف صار جزاء المكذبين لرسلهم‏.‏ فيه تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحثّ له على الصبر، وتخويف لهم بالعقوبة‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ‏}‏، يعني‏:‏ بالقرآن‏.‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين‏}‏، يعني‏:‏ بعقوبة من لم يؤمن به‏.‏ قال مقاتل‏:‏ ‏{‏وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ‏}‏ من أهل الكتاب ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ‏}‏ من أهل مكة؛ وقال الكلبي‏:‏ ‏{‏وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ‏}‏ من اليهود، يعني‏:‏ يؤمن به من قبل موته ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ بعلم الله تعالى السابق فيه؛ وقال الزجاج‏:‏ معناه ومنهم من يعلم أنه حق، فيصدق بقلبه ويعاند ويظهر الكفر، ومنهم من لا يؤمن به أي يشك ولا يصدق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن كَذَّبُوكَ‏}‏، يعني‏:‏ المشركين بما أتيتهم به‏.‏ ‏{‏فَقُل لّى عَمَلِى‏}‏ يعني‏:‏ ديني‏.‏ ‏{‏وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ‏}‏، يعني‏:‏ دينكم‏.‏ ‏{‏أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ‏}‏ وأدين؛ ‏{‏وَأَنَاْ بَرِئ مّمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ وتدينون به غير الله تعالى وهذا قبل أن يؤمر بالقتال، ولما نزلت آية القتال نسخت هذه الآية‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ‏}‏، قال الكلبي‏:‏ نزلت في شأن اليهود، قدموا مكة وكانوا يسمعون قراءة القرآن فيعجبون به ويشتهونه، وتغلب عليهم الشقاوة فلا يسلمون قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم‏}‏، يعني‏:‏ تفقه الكافر الذي لا يعقل الموعظة؛ وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ‏}‏ وذلك أن كفار قريش دخلوا المسجد الحرام والنبي صلى الله عليه وسلم قائم عند المقام يصلي، وهو يقرأ سورة طه قال الوليد بن المغيرة‏:‏ يا معشر قريش، إنما يتلو محمد ليأخذ بقلوبكم‏.‏ فقال أبو جهل اللعين وأصحابه‏:‏ لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه، فنزل ‏{‏أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم‏}‏ وذلك أنهم صموا عن الحق، ويقال‏:‏ ‏{‏أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم‏}‏ أي من يتصامم ولا يستمع إليك‏.‏ ‏{‏وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏، يقول أي وإن كانوا مع ذلك لا يرغبون في الحق‏.‏

‏{‏وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ‏}‏، يعني‏:‏ بغير رغبة‏.‏ ‏{‏أَفَأَنْتَ تَهْدِى العمى‏}‏، يعني‏:‏ ترشد من يتعامى‏.‏ ‏{‏وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ‏}‏ الحق ولا يرغبون فيه‏.‏ قال مقاتل والقتبي‏:‏ هذا من جوامع الكلم، حيث بَينَّ فضل السمع على البصر، حيث جعل مع الصم فقدان العقل، ولم يجعل مع العمى إلا فقدان البصر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 49‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏44‏)‏ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏45‏)‏ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ‏(‏46‏)‏ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏47‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏48‏)‏ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا‏}‏، يقول‏:‏ لا ينقص من أجور الناس شيئاً ولا يحمل عليهم من أوزار غيرهم، ‏{‏ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏، يعني‏:‏ يضرون أنفسهم بتركهم الحق‏.‏ قرأ حمزة والكسائي ‏{‏ولكن الناس‏}‏ بكسر النون مع التخفيف وضمّ السين، وقرأ الباقون ‏{‏ولكن الناس‏}‏ بالنصب والتشديد ونصب السين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ‏}‏، يقول‏:‏ يجمعهم في الآخرة‏.‏ ‏{‏كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّنَ النهار‏}‏؛ قال الكلبي‏:‏ كأن لم يلبثوا في قبورهم إلاّ ساعة من النهار؛ وقال الضحاك‏:‏ كَأَنَّ لَمْ يَلْبَثُوا فِي الْقُبُورِ إلا ما بين العصر إلى غروب الشمس، أو ما بين صلاة الغداة إلى طلوع الشمس؛ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ بين النفختين لأنه يرفع عنهم العذاب فيما بين ذلك؛ وقال مقاتل‏:‏ كأن لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من النهار‏.‏ ‏{‏يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ يعني‏:‏ يتعارفون بينهم حين خرجوا من قبورهم، ثم تنقطع عنهم المعرفة فلا يعرف أحد أحداً، وقال الضحاك‏:‏ يتعارفون بينهم حين خرجوا، وذلك أن أهل الإيمان يبعثون يوم القيامة على ما كانوا عليه في دار الدنيا من التواصل والتراحم، يعرف بعضهم بعضاً محسنهم لمسيئهم، وأما أهل الشرك فلا أنساب بينهم يومئذ، ولا يتساءلون‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله‏}‏، يعني‏:‏ بالبعث بعد الموت ‏{‏وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ‏}‏، يقول لم يكونوا مؤمنين في الدنيا‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ‏}‏ من العذاب، ‏{‏أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ‏}‏ قبل أن نرينك ‏{‏فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ‏}‏ مصيرهم في الآخرة‏.‏ وروي عن عبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنهما قالا‏:‏ أخبر الله تعالى نبيه أن يستخلف أمته من بعده ‏{‏ثُمَّ الله شَهِيدٌ‏}‏ في الآخرة ‏{‏على مَا يَفْعَلُونَ‏}‏ في الدنيا من الكفر والتكذيب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِكُلّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ‏}‏، يعني‏:‏ لأهل كل دين رسول أتاهم، ‏{‏فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ‏}‏، يعني‏:‏ فأبلغهم فكذبوه ‏{‏قُضِىَ بَيْنَهُمْ‏}‏ وبين رسولهم ‏{‏بالقسط‏}‏ يعني‏:‏ بالعدل ‏{‏وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئاً‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة، قضي بينهم بالعدل وهم لا يظلمون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد‏}‏، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ‏}‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ أن العذاب ينزل بنا ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد‏:‏ ‏{‏لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا وَلاَ نَفْعًا‏}‏، يعني‏:‏ ليس في يدي دفع مضرة ولا جرّ منفعة، ‏{‏إِلاَّ مَا شَاء الله‏}‏‏.‏ أن يقويني عليه‏.‏ قال مقاتل‏:‏ معناه قل‏:‏ لا أملك لنفسي أن أدفع عنها سوءاً حين ينزل، ولا أن أسوق إليها خيراً إلا ما شاء الله فيصيبني، فكيف أملك نزول العذاب بكم‏.‏

وقال القتبي‏:‏ الضُّر بضم الضاد الشدة والبلاء، كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كاشف لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ على كُلِّ شَئ قَدُيرٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 17‏]‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 54‏]‏ والضُّر بفتح الضاد ضد النفع، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَآءَ الله لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 49‏]‏ يعني‏:‏ قل‏:‏ لا أملك جر نفع ولا دفع ضَرَ‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ‏}‏ وقته في العذاب، ويقال لكل أمة أجل يعني‏:‏ مهلة، ويقال‏:‏ أجل الموت‏.‏ ‏{‏إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ‏}‏ وقتهم بالعذاب، ‏{‏فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ‏}‏؛ يعني‏:‏ لا يتأخرون عنه ساعة، ولا يتقدمون عنه ساعة فكذلك هذه الأمة إذا نزل بهم العذاب لا يتأخر عنهم ساعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 52‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏50‏)‏ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏51‏)‏ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَءيْتُمْ‏}‏‏.‏ يا أهل مكة ‏{‏إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ‏}‏، يعني‏:‏ عذاب الله تعالى‏.‏ ‏{‏بَيَاتًا‏}‏ ليلاً كما جاء إلى قوم لوط، ‏{‏أَوْ نَهَارًا‏}‏؛ يعني‏:‏ مجاهرة كما جاء إلى قوم شعيب‏.‏ ‏{‏مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون‏}‏، يقول‏:‏ بأي شيء يستعجل منه المجرمون يعني‏:‏ المشركين، ويقال ماذا ينفعهم استعجالهم منه أي من عذاب الله تعالى‏؟‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءامَنْتُمْ بِهِ‏}‏، يعني‏:‏ إذا وقع العذاب صدقتم به، يعني‏:‏ بالعذاب؛ ويقال‏:‏ بالله‏.‏ ‏{‏الئان‏}‏، يعني‏:‏ يقال لهم آمنتم بالعذاب حين لا ينفعكم، ‏{‏وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ‏}‏؛ وهذا اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به التهديد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ‏}‏، يعني‏:‏ قالت لهم خزنة جهنم‏:‏ ‏{‏ذُوقُواْ عَذَابَ الخلد‏}‏، الذي لا ينقطع‏.‏ ‏{‏هَلْ تُجْزَوْنَ‏}‏، يقول‏:‏ هل تثابون، ‏{‏إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ‏}‏ من الكفر والتكذيب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 58‏]‏

‏{‏وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏53‏)‏ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏54‏)‏ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏55‏)‏ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏56‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏57‏)‏ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ‏}‏ قال قتادة ومقاتل‏:‏ وذلك أنَّ حييَّ بْنَ أخْطَبَ حين قدم مكة قال للنبي صلى الله عليه وسلم أحق هذا العذاب‏؟‏ قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قُلْ إِى وَرَبّى‏}‏، يعني‏:‏ إي والله إنَّه لكائن‏.‏ ويقال‏:‏ معناه ويسألونك عن البعث أحق هو‏؟‏ ويسألونك عن دينك أحق هو‏؟‏ ‏{‏قُلْ إِى وَرَبّى‏}‏، يعني قل‏:‏ يا محمَّد نعم ‏{‏إِنَّهُ لَحَقٌّ‏}‏ يعني‏:‏ العذاب نازل بكم إن لم تؤمنوا ‏{‏وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ‏}‏ بفائتين من العذاب حتَّى يخزيكم به، ثم أخبر عن حالهم حين نزل بهم العذاب‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ‏}‏ يعني‏:‏ كفرت، وأشركت بالله تعالى، لو كان لها ‏{‏مَا فِى الارض لاَفْتَدَتْ بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ النَّفس لافتدت من سوء العذاب، ولا يُقبَل منها‏.‏ ‏{‏وَأَسَرُّواْ الندامة‏}‏ يعني‏:‏ أخفوا النَّدامة يعني‏:‏ القادةُ من السَّفلة، ‏{‏لَمَّا رَأَوُاْ العذاب‏}‏ حين نزل بهم العذاب‏.‏

‏{‏وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالقسط‏}‏ بين القادة والسفلة بالعدل، ويقال‏:‏ قضي بينهم، يعني‏:‏ بين الخلق بالعدل، فيعطي ثوابهم على قدر أعمالهم‏.‏ ويقال‏:‏ يقضي بين الكفَّار بالعدل، وبين المؤمنين بالفضل‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا يُنْقَصُونَ من ثواب أعمالهم شيئاً، ثمَّ بيَّن استغناءه عن عبادة الخلق وقدرته عليهم، فقال‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى *** السموات والارض‏}‏ يعني‏:‏ كلُّهم عبيده وإماؤه، وهو قادر عليهم‏.‏ ويقال‏:‏ كلُّ شيء يدلُّ على توحيده، وأنَّ له صانعاً‏.‏

‏{‏أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ‏}‏ يعني‏:‏ البعث بعد الموت هو كائن‏.‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا يُصدِّقون به‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ في الآخرة، فيجازيكم بأعمالكم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس‏}‏ يعني‏:‏ يا أهل مكَّة، ويقال‏:‏ جميع النَّاس، ‏{‏قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ نهياً من ربِّكم عن الشِّرك على لسان نبيِّكم، ‏{‏وَشِفَاء لِمَا فِى الصدور‏}‏ يعني‏:‏ القرآن شفاء للقلوب من الشِّرك‏.‏ ويقال‏:‏ شفاء من العمى؛ لأن فيه بيان الحلال والحرام ‏{‏وهدى‏}‏ من الضّلالة، ويقال‏:‏ صواباً، وبياناً ‏{‏وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن نعمة الله على المؤمنين، نعمة من العذاب لِمَنْ آمن، وعمل بما فيه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ بِفَضْلِ الله‏}‏، يعني‏:‏ قل يا مُحمَّد للمؤمنين بفضل الله، والإسلام ‏{‏وَبِرَحْمَتِهِ‏}‏ القرآن‏.‏ وروي عن ابن عبَّاس أنه قال‏:‏ بفضل الله، يعني‏:‏ القرآن، وبرحمته الإسلام، يعني‏:‏ بنعمته عليكم إذ أكرمكم بالإسلام، والقرآن‏.‏ وهكذا قال أبو سعيد الخِدْرِيّ‏.‏ وقال الضَّحَّاك، ومجاهد‏:‏ بفضل الله‏:‏ القرآن؛ وبرحمته‏:‏ الإسلام‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ بفضل الله‏:‏ الإسلام، وبرحمته‏:‏ القرآن‏.‏ وعن الحسن مثله‏.‏ وقال القُتَبِيّ مثله‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ‏}‏ يعني‏:‏ بالقرآن والإيمان ‏{‏هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏ من الأموال‏.‏ قرأ ابن عامر‏:‏ ‏{‏فَبِذَلِكَ‏}‏ بالتاء كلاهما على معنى المخاطبة وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏مّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏ بالياء، على معنى المغايبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 61‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ‏(‏59‏)‏ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏60‏)‏ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏61‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مّن رّزْقٍ‏}‏ في الكتاب، ويقال‏:‏ من السَّماء، ويقال‏:‏ ما أعطاكم الله من الرِّزق، والحرث، والأنعام، والبحيرة، والسَّائبة‏.‏ وبَيَّنَ في كتابه تحليلها‏.‏ ‏{‏فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً‏}‏ حراماً على النساء، وحلالاً على الرجال ‏{‏قُلِ الله * أَذِنَ لَكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ الله عزّ وجل أمركم بتحريمه وتحليله‏؟‏ ‏{‏أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ بل على الله تفترون، يعني‏:‏ تختلقون على الله كذباً ما لم يقله، ولم يأمر به‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏قُلِ الله * أَذِنَ لَكُمْ‏}‏‏؟‏ فقالوا‏:‏ بلى، أمرنا بها، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ‏}‏، بل على الله تختلقون‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب‏}‏ يعني‏:‏ وما ظنُّهم حين ينزل بهم العذاب ‏{‏يَوْمُ القيامة‏}‏‏؟‏ وكيف ينجون منه‏؟‏ ‏{‏إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس‏}‏ لذو مَنَ على النَّاس، بتأخير العذاب عنهم، ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ‏}‏ نعمة الله تعالى عليهم، بتأخير العذاب عنهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ‏}‏، أي‏:‏ وما تكون يا مُحَمَّدُ في أمر من الأمور، ‏{‏وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا‏}‏ وما تقرأ من الله من قرآن، ممَّا أوحي إليك‏.‏ فخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، وخاطب أمته أيضاً، فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا‏}‏ يعني‏:‏ عالماً بكم، وبأعمالكم، فلا تنسوه‏.‏ ويقال‏:‏ إلاّ جعل عليكم شاهداً من الملائكة، وهم الحفظة ‏{‏إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ‏}‏ يعني‏:‏ حين تأخذون في قراءة القرآن‏.‏ ويقال‏:‏ حين تخوضون فيه‏.‏

‏{‏وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ‏}‏ قرأ الكِسَائِيُّ‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْزُبُ‏}‏ بكسر الزَّاي‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالضَّم، وهما لغتان جيدتان‏.‏ وهكذا ذُكِرَ عن الفَرَّاءِ‏.‏ يعني‏:‏ وما يغيب ‏{‏عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ‏}‏ قال الكَلْبِيّ‏:‏ وهي النَّملة الحُمَيْرَاءُ‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ أصغر نملة في الأرض‏.‏ ويقال‏:‏ الذَّر ما يُرَى من شعاع الشَّمس، والمثقال عبارة عن الوزن‏.‏ يعني‏:‏ لا يغيب عنه وزن الذَّرَّة ‏{‏فِي الارض وَلاَ فِى السماء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك‏}‏ يعني‏:‏ ولا أخف من وزن الذَّرَّة ‏{‏وَلا أَكْبَرَ‏}‏، يعني‏:‏ ولا أثقل من وزن الذَّرَّة‏.‏ ويقال‏:‏ لا أقلَّ منه، ولا أعظم، ‏{‏إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ‏}‏‏.‏ يعني‏:‏ مكتوباً في اللَّوح المحفوظ‏.‏ قرأ حمزة‏:‏ ‏{‏وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ‏}‏ بضمِّ الرَّاءين‏.‏ ومعناه‏:‏ ولا يغيب عنه أصغر من ذلك، ولا أكبر منه، فيصير رفعاً لأنه فاعل‏.‏ وقرأ الباقون بالنَّصب، لأن معناه‏:‏ ولا يغيب عنه بمثقال ذرة في الأرض ولا في السَّماء، ولا بمثقال ذرَّة أصغر من ذلك‏.‏ فموضعه خَفْضٌ، إلاّ أنّه لا ينصرف فصار نصباً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 68‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏62‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏63‏)‏ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏64‏)‏ وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏65‏)‏ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏66‏)‏ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏67‏)‏ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله‏}‏، يعني‏:‏ المؤمنين‏.‏ ويقال‏:‏ أحباء الله، وهم حملة القرآن والعلم‏.‏ ويقال‏:‏ الَّذين يجتنبون الذُّنوب في الخلوات، ويعلمون أنّ الله تعالى مُطَلِّعٌ عليهم‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه سُئِل عن أولياء الله تعالى، فقال‏:‏ «هُمُ الَّذِينَ إذا رُءُوا ذُكِرَ الله تَعَالَى»‏.‏ وقال وهبُ بنُ مُنَبِّه‏:‏ قال الحواريُّون لعيسى ابنِ مريمَ‏:‏ يا روحَ الله، مَنْ أولياء الله‏؟‏ قال‏:‏ الَّذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر النَّاس إلى ظاهرها، ونظروا إلى أجل الدُّنيا حين نظر النَّاس إلى عاجلها، فأحبُّوا ذِكْرَ الموت، وأماتوا ذِكْرَ الحياة، ويحبُّون الله تعالى، ويحبُّون ذكره‏.‏ وقال الضَّحَّاك‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله‏}‏ يعني‏:‏ المخلصين لله، ‏{‏لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ لا يخافون من أهوال يوم القيامة ‏{‏وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ حين زفرت جهنَّم‏.‏

ثمَّ نعتهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أقرُّوا وصدَّقوا بوحدانية الله تعالى، ويتَّقون الشِّرك والفواحش، ‏{‏لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا‏}‏ يعني‏:‏ البشارة، وهي الرُّؤيا الصَّالحة يراها العبد المسلم لنفسه، أو يرى له غيره‏.‏ وروي عن عبد الله بن عُمَر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «الرُّؤيا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ من سَبْعِينَ جُزْءاً مِنَ النّبوَّةِ»‏.‏ وفي خبر آخر‏:‏ «مِنْ أرْبَعِينَ جُزْءا» وفي خبر آخر‏:‏ «مِنْ سِتَّةٍ وَأرْبَعِينَ جُزْءاً»‏.‏ وروى عَطَاء بن يَسَارٍ، عن رجل كان يفتي بالبصرة، قال‏:‏ سألت أبا الدَّرداء عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا‏}‏، قال أبو الدَّرداء‏:‏ ما سألني عنها أحد منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أحَدٌ قَبْلَكَ، هِيَ الرُّؤيا الصَّالِحَة يَرَاهَا المُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ» ‏{‏وَفِي الاخرة‏}‏‏:‏ الجنَّةُ‏.‏ وعن عبادة بن الصامت، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فأجابه بمثل ذلك‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا‏}‏ يعني‏:‏ عند الموتَ يُبَشِّره الملائكة، كما قال في آية أُخرى‏:‏ ‏{‏تُنَزَّلَ *** عَلَيْكُمْ *** الملئكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ‏}‏‏.‏ وفي الآخرة يُبَشِّرُهُ الملائكة حين يخرج من القبر‏.‏

‏{‏لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله‏}‏‏:‏ لا تغيير، ولا تحويل لقول الله تعالى، لأنَّ قوله حقٌّ بأنّ لهم البشرى في الحياة الدنيا‏.‏ ويقال‏:‏ لا تبديل لكلمات الله، يعني‏:‏ لا خلف لمواعيده التي وعد في القرآن‏.‏ ‏{‏ذلك هُوَ الفوز العظيم‏}‏ يعني‏:‏ الثَّواب الوافر‏.‏ ويقال‏:‏ النجاة الوافرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ‏}‏ يقول‏:‏ يا مُحَمَّدُ لا يحزنك تكذيبهم‏:‏ ‏{‏إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً‏}‏، بأنّ النِّعمة والقدرة لله تعالى، وجميع مَنْ يتعزَّزُ إنَّما هو بإذن الله تعالى‏.‏

‏{‏هُوَ السميع العليم‏}‏‏:‏ السَّميع لمقالتهم، العليم بهم، وبعقوبتهم على ترك توحيدهم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ للَّهِ مَن فِى *** السموات *** وَمَن فِى الارض‏}‏ يعني‏:‏ من الخلق، كلهم عبيده وإماؤه‏.‏ ‏{‏وَمَا يَتَّبِعُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله شُرَكَاء‏}‏ يعني‏:‏ وما يعبد الذين يعبدون من دون الله الأوثان والأصنام‏.‏ ولم يأت بجوابه، وجوابه مضمر، ومعناه‏:‏ ما هي لي شركاء، ولا نفع لهم في عبادتها، ‏{‏إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن‏}‏ يعني‏:‏ ما يعبدون الأصنام إلاّ بالظن، ‏{‏وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ‏}‏ يقول‏:‏ وما هم إلاّ يكذبون‏.‏ يقول‏:‏ ما أمرهم الله تعالى بعبادتها، ولا تكون لهم شفاعة‏.‏

ثمّ دلَّ بصنعه على توحيده، فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ‏}‏ يعني‏:‏ خلق لكم اللَّيل، لَتَقَرُّوا فيه من النَّصَبِ والتَّعَبِ، ‏{‏والنهار مُبْصِراً‏}‏ يعني‏:‏ خلق النَّهار مطلباً للمعيشة‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ يعني‏:‏ في تقليب اللَّيل والنَّهار ‏{‏لاَيَاتٍ‏}‏ يعني‏:‏ لَعِبْرَاتٍ وَعَلاَمَاتٍ لوحدانيَّةِ الله، ‏{‏لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ‏}‏ يعني‏:‏ المواعظ‏.‏

ثمّ رجع إلى ذِكْرِ كُفَّار مَكَّةَ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا‏}‏، حين قالوا‏:‏ الملائكة بنات الله تعالى، ‏{‏سبحانه‏}‏ نَزَّهَ نفسه عن الولد، ‏{‏هُوَ الغنى‏}‏ عن الولد، ‏{‏لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض‏}‏ مِنَ الخلق، سمّاهم عبيده وإماءه ‏{‏إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بهذا‏}‏ يعني‏:‏ ما عندكم من حُجَّة بهذا القول، ‏{‏أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ بغير حجةٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 73‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ‏(‏69‏)‏ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏70‏)‏ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ‏(‏71‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏72‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب‏}‏ بأنَّ له ولداً ‏{‏لاَ يُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏ يعني‏:‏ لا يأمنون من عذابه، ولا ينجون منه‏.‏ ‏{‏متاع‏}‏ يعني‏:‏ منفعتهم ‏{‏فِى الدنيا‏}‏ قليل ‏{‏ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ‏}‏، يعني‏:‏ مصيرهم في الآخرة ‏{‏ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ‏}‏‏.‏ بكفرهم‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ‏}‏ فإن لم تعتبروا بذلك، فاتْلُ عليهم، يعني‏:‏ اقرأ عليهم خبر نوح في القرآن، ‏{‏إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ياقوم *** قَوْمٍ أَن **كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ عظم، وثَقُلَ ‏{‏مَّقَامِى‏}‏ طول مقامي فيكم ‏{‏وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ الله‏}‏ يعني‏:‏ وعظي لكم بالله تعالى‏.‏ وعظته بالله تعالى ما ذُكِرَ في سورة نوح، وهو قوله‏:‏ ‏{‏فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 10‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏الذى خَلَقَ سَبْعَ سماوات طِبَاقًا مَّا ترى فِى خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ‏}‏ ‏[‏لملك‏:‏ 3‏]‏ الآية‏.‏ فلمَّا وعظهم بذلك أرادوا قتله، حين قالوا‏:‏ ‏{‏لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانوح لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين‏}‏ أي من المقتولين بالحجارة‏.‏ فقال لهم نوح‏:‏ ‏{‏إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى‏}‏ فيكم وعظتي لكم ‏{‏فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ‏}‏ أي وثقت، وفوَّضت أمري إلى الله تعالى، ‏{‏فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ كيدكم‏.‏ ويقال‏:‏ قولكم، وعملكم؛ ‏{‏وَشُرَكَاءكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ وادعوا شركاءكم ‏{‏ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقضوا إِلَىَّ‏}‏ أي‏:‏ امضوا إليَّ ‏{‏وَلاَ تُنظِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ ولا تمهلون‏.‏

ويقال‏:‏ اقضوا ما أنتم قاضون، واستعينوا بآلهتكم‏.‏ ويقال‏:‏ اعملوا بما في أنفسكم من الشَّرِّ‏.‏ وروي عن نافع أنه قرأ‏:‏ ‏{‏فَأَجْمِعُواْ‏}‏ بالوصل والجزم، مِنْ جمعت‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏فَأَجْمِعُواْ‏}‏ بالقطع من الإجماع‏.‏ وقرأ الحسن البصريُّ، ويعقوب الحَضْرَمِيُّ‏:‏ ‏{‏شُرَكَاءكُمُ‏}‏ أي‏:‏ أين شركاؤكم ليجمعوا أمرهم معكم، ويعينوكم‏؟‏ ‏{‏ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً‏}‏ يقول‏:‏ أظهروا أمركم فلا تكتموه‏.‏ يعني‏:‏ القتل‏.‏ وقال القتبِيُّ‏:‏ الغُمَّةُ والغَمُّ واحد، كما يقال‏:‏ كُرْبَةٌ وكَرْبٌ‏.‏ أي‏:‏ لا يكن أمركم غمّاً عليكم ‏{‏ثُمَّ اقضوا إِلَىَّ‏}‏ أي‏:‏ اعملوا بما تريدون، كقوله‏:‏ ‏{‏قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَآءَنَا مِنَ البينات والذى فَطَرَنَا فاقض مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هذه الحياة الدنيآ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 72‏]‏‏.‏

‏{‏فَإِن تَوَلَّيْتُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أعرضتم وأبيتم عن الإيمان، وأبيتم أن تقبلوا ما أتيتكم به، وأمرتكم به، ونهيتكم عنه، ‏{‏فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ‏}‏ يعني‏:‏ ما سألتكم بذلك أجراً في الدُّنيا ومعناه‏:‏ إن أعرضتم عن الإيمان لا يضرُّني لأنِّي لا أطلب منكم بذلك أجراً في الدِّين، ‏{‏إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله‏}‏ ما ثوابي إلاّ على الله، ‏{‏وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين‏}‏ يعني‏:‏ وأُمرتُ أن أستقيم على التَّوحيد مع المسلمين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَذَّبُوهُ‏}‏ بالعذاب، بأنَّه غير نازلٍ بهم ‏{‏فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الفلك‏}‏ من الغرق، ‏{‏وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ‏}‏ يعني‏:‏ خلفاء من بعد هلاكِ كُفَّارهم، ‏{‏فَكَذَّبُوهُ فأنجيناه والذين مَعَهُ‏}‏ يعني‏:‏ كذَّبوا نوحاً بما أتاهم به، ‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين‏}‏ كيف كان آخرُ أمرِ مَنْ أنذرهم الرُّسلُ فلم يؤمنوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 78‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏74‏)‏ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏75‏)‏ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏76‏)‏ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ‏(‏77‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ‏}‏ أي من بعد هلاك قوم نوح ‏{‏رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ‏}‏، مثل‏:‏ هود، وصالح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، عليهم السلام ‏{‏موسى بالبينات‏}‏ يعني‏:‏ بالأمر والنهي‏.‏ ويقال‏:‏ بالآيات والعلامات، ‏{‏فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ ما كان كُفَّار مكة ليصدِّقوا بالعذاب أنه نازل بهم، كما لم يصدق به أوائلهم من قبل كفار مكة‏.‏ وقال الكَلْبِي‏:‏ فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به عند الميثاق، حين أخرجهم من صلب آدم‏.‏ وقال‏:‏ وما كانوا ليؤمنوا، يعني‏:‏ أُولئك القوم بعد ما كان دعاهم الرُّسل بما كذبوا به من قبل أن يأتيهم الرُّسل ‏{‏كَذَلِكَ نَطْبَعُ على قُلوبِ المعتدين‏}‏ يعني‏:‏ نختم على قلوب المعتدين من الحلال والحرام‏.‏ ويقال صار تكذيبهم طبعاً على قلوبهم، فمنعهم عن الإيمان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم‏}‏ من بعد الرُّسل ‏{‏موسى وهارون إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بآياتنا‏}‏ التّسع ‏{‏فاستكبروا‏}‏ يعني‏:‏ تكبَّروا عن الإيمان ‏{‏وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ‏}‏ يعني‏:‏ مشركين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءهُمُ الحق‏}‏ يعني‏:‏ ظهر لهم الحقُّ ‏{‏مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ يعني‏:‏ الَّذي أتيتنا به كذب بَيِّنٌ، ف ‏{‏قَالَ موسى أَتقُولُونَ لِلْحَقّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هذا‏}‏ وفي الآية مضمر، ومعناه‏:‏ أتقولون للحقِّ لما جاءكم إنَّه سحر‏؟‏ ثمَّ قال‏:‏ أسِحْرٌ هذا‏؟‏ يعني‏:‏ أيكون مثل هذا سحراً‏؟‏ فليس ذلك بسحر، ولكنَّ ذلك علامة للنُّبوَّة، ‏{‏وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون‏}‏ في الدُّنيا والآخرة‏.‏ ويقال‏:‏ لا ظفر لهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ أَجِئْتَنَا‏}‏ يعني‏:‏ قال فرعون وقومه لموسى عليه السلام ‏{‏أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا‏}‏‏؟‏ يعني‏:‏ لتصرفنا، وتصدنا ‏{‏عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا‏}‏ يقول‏:‏ عما كان يعبد آباؤنا ‏{‏وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء‏}‏ يعني‏:‏ السُّلطان والشَّرف والمُلْكُ ‏{‏فِى الارض‏}‏، يعني‏:‏ في أرض مصر ‏{‏وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ بمصدِّقين بأنّكما رسولا ربِّ العالمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 86‏]‏

‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ‏(‏79‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ‏(‏80‏)‏ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏81‏)‏ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏82‏)‏ فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏83‏)‏ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ‏(‏84‏)‏ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏85‏)‏ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ حاذق بالسِّحر‏.‏ قرأ حمزة والكساني‏:‏ يعني‏:‏ حاذق بالسِّحر‏.‏ قرأ حمزة والكساني‏:‏ ‏{‏سَحَّارٍ‏}‏، على معنى المبالغة، وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏ساحر‏}‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاء السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ‏}‏ يعني‏:‏ اطرحوا ما في أيديكم من العِصِيِّ والحبال ‏{‏فَلَمَّا أَلْقُوْاْ‏}‏ ما معهم من الحبال والعِصِيِّ إلى الأرض ‏{‏قَالَ موسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر‏}‏ يعني‏:‏ العمل الذي عملتم به هو السِّحر ‏{‏إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ‏}‏ يعني‏:‏ سيهلكه ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين‏}‏ يعني‏:‏ لا يرضى عمل المفسدين‏.‏ قرأ أبو عمرو‏:‏ السِّحر، بالمدِّ على وجه الاستفهام، ويكون معناه‏:‏ ‏{‏قَالَ موسى مَا جِئْتُمْ بِهِ‏}‏ يَعني ما الَّذي جئتم به‏؟‏ وتمَّ الكلام‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏السحر إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين‏}‏ يعني‏:‏ عمل السحرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُحِقُّ الله الحق بكلماته‏}‏ يعني‏:‏ يظهر دينه الإسلام بتحقيقه، ونصرته ‏{‏وَلَوْ كَرِهَ المجرمون‏}‏ يعني‏:‏ فرعون وقومه‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا ءامَنَ لموسى‏}‏ يعني‏:‏ ما صدَّق بموسى ‏{‏إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ‏}‏ يعني‏:‏ قبيلته من قومه الذين كانت أمَّهاتهم من بني إسرائيل، وآباؤهم من القبط‏.‏ وروى مقاتل، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ‏}‏، يعني‏:‏ من قوم موسى عليه السلام وهم بنو إسرائيل، وهم ستمائة ألف‏.‏ قال‏:‏ وكان يعقوب حين ركب إلى مصر من كنعان في اثنين وسبعين إنساناً، فتوالدوا بمصر حتّى بلغوا ستمائة ألف‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ‏}‏، يعني‏:‏ خربيل وهو الذي قال في آية أُخرى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمانه أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّىَ الله وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كاذبا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صادقا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذى يَعِدُكُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 28‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏على خَوْفٍ مّن فِرْعَوْنَ‏}‏ يعني‏:‏ فما آمن لموسى عليه السلام خوفاً من فرعون ‏{‏وَمَلَئِهِمْ‏}‏ إشارة إلى فرعون بلفظ الجماعة، كقوله‏:‏ ‏{‏فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلِ بِعِلْمِ الله وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 14‏]‏ يعني‏:‏ محمداً صلى الله عليه وسلم خاصة ‏{‏أَن يَفْتِنَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ يقتلهم ‏{‏وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الارض‏}‏ يعني‏:‏ لَعات‏.‏ ويقال‏:‏ الغالب، ويقال‏:‏ المخالف، والمتكبر في أرض مصر ‏{‏وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين‏}‏ يعني‏:‏ لمن المشركين‏.‏ روى موسى بن عبيدة، عن محمد بن المنكدر، قال‏:‏ عاش فرعون ثلاثمائة سنة، منها مائتين وعشرين سنة لم ير مكروهاً، ودعاه موسى عليه السلام ثمانين سنة‏.‏

‏{‏وَقَالَ موسى يافرعون *** قَوْمٍ أَن *** كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بالله فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ‏}‏ يعني‏:‏ ثقوا بالله تعالى، وذلك حين قالوا له‏:‏

‏{‏قالوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الارض فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 129‏]‏ فلما قال لهم هذا موسى عليه السلام ‏{‏قَالُواْ * عَلَى الله تَوَكَّلْنَا‏}‏ يعني‏:‏ فوَّضنا أمرنا إليه، ‏{‏رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً‏}‏ بَلِيَّةً وَعِبْرَةً ‏{‏لّلْقَوْمِ الظالمين‏}‏‏.‏ يعني‏:‏ لا تنصرهم علينا‏.‏ قال مجاهد‏:‏ يعني‏:‏ لا تعذِّبنا بأيدي فرعون، ولا بعذاب من عندك، فيقولوا‏:‏ لو كانوا على الحقّ، ما عُذِّبوا وما سُلِّطْنَا عليهم، فَيُفْتَنُوا بنا، ‏{‏وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ‏}‏ يعني‏:‏ بنعمتك ‏{‏مِنَ القوم الكافرين‏}‏ يعني‏:‏ فرعون وقومه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 89‏]‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏87‏)‏ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏88‏)‏ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إلى موسى وَأَخِيهِ‏}‏ هارون، وذلك لما منعهم فرعون، وقومه الصَّلاة علانية، وخرّبوا مساجدهم ‏{‏أَن تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا *** بُيُوتًا‏}‏ يعني‏:‏ اتّخذوا لقومكما بمصر مساجد في جوف البيوت ‏{‏واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً‏}‏ يعني‏:‏ مساجد فتصلون فيها‏.‏ ويقال‏:‏ حَوِّلُوا بيوتكم نحو القبلة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ كانوا يصلون في البِيَعِ، فأمرهم أن يصلوا في البيوت‏.‏ وقال إبراهيم النخْعِيُّ‏:‏ كانوا خائفين، فأمرهم بالصَّلاة في بيوتهم‏.‏ وكان إبراهيم النخعِيِّ خائفاً من الحجَّاج، وكان يصلي في بيته‏.‏

ثم قال ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا‏}‏ يعني‏:‏ أَتِّمُّوها بركوعها، وسجودها ولم يأمرهم بالزكاة، لأن فرعون عليه اللَّعنة قد استعبدهم، وأخذ أموالهم، فلم يكن لهم مال يجب عليهم الزّكاة فيه‏.‏ ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَبَشّرِ المؤمنين‏}‏ يعني‏:‏ المصدِّقين بتوحيد الله تعالى بالجنة‏.‏ قرأ عاصم في رواية حفص‏:‏ ‏{‏ءانٍ‏}‏ بالياء بلا همز، لأنه كره الهمزة بين حرفين فجعلها ياء‏.‏ وقرأ الباقون بغير ياء بالهمزة، إلا أنه روي عن حمزة أنه كان لا يهمز‏.‏ قوله تعالى ‏{‏المؤمنين وَقَالَ موسى رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ‏}‏، وذلك أن أهل مصر لما عُذِّبُوا بالطُّوفان والجراد والسنين، قالوا‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز قَالُواْ ياموسى ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بنى إسراءيل‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 134‏]‏، ثمّ نكثوا العهد ولم يؤمنوا، فغضب موسى عليهم، ودعا الله تعالى عليهم، وقال‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ‏}‏ يعني‏:‏ الأشراف من قومه ‏{‏زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ‏}‏ يعني‏:‏ أعطيتهم ليضلوا ‏{‏عَن سَبِيلِكَ‏}‏ عن دينك الإسلام‏.‏ قرأ أهل الكوفة، وعاصم، وحمزة الكسائي‏:‏ ‏{‏لِيُضِلُّواْ‏}‏ بضم الياء‏.‏ يعني‏:‏ ليُضلُّوا النّاس ويصرفونهم عن دينهم‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏لِيُضِلُّواْ‏}‏ بنصب الياء‏.‏ يعني‏:‏ يرجعون عن دينك ويمتنعون جملة واحدة عنه‏.‏

‏{‏رَبَّنَا اطمس على أموالهم‏}‏ يعني‏:‏ غيِّر دراهمهم ودنانيرهم، وذلك حين وعد فرعون بأن يؤمن، ويرسل معه بني إسرائيل، ثم نقض العهد، فدعا عليهم موسى عليه السلام وروى معمر عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا اطمس على أموالهم‏}‏ قال‏:‏ بلغنا أنَّ حروثاً لهم صارت حجارة‏.‏ وعن السّدي أنه قال‏:‏ صارت دراهمهم ودنانيرهم حجارة‏.‏ وعن أبي العالية الرِّياحيّ أنه قال‏:‏ صارت أموالهم حجارة وقال مجاهد، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا اطمس على أموالهم‏}‏ يعني‏:‏ أهلكها‏.‏ وقال القتبي في قوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا اطمس على أموالهم‏}‏ أي اقسمها‏.‏ ويقال‏:‏ اطبع قلوبهم وأمتهم على الكفر، فلا توفقهم للإيمان لكي لا يؤمنوا ‏{‏فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الاليم‏}‏ وهو الغرق‏.‏ ودعا موسى عليه السلام وَأَمَّن هارون عليه السلام ‏{‏قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا‏}‏ قال محمد بن كعب القرظي‏:‏ دعا موسى، وأمَّن هارون‏.‏

وعن أبي العالية، وعكرمة وأبي صالح مثله‏.‏ وعن أبي هريرة مثله‏.‏ وعن أنس بن مالك أنه قال‏:‏ كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «إِنَّ الله تَعَالَى أَعْطَانِي خِصَالاً ثَلاثاً‏:‏ أَعْطَانِي صَلاةً بِالصُّفُوفِ، وَأعْطَانِي تَحِيَّةً هِيَ تِحَّيةُ أهْلِ الجَنَّةِ، وَأَعْطَانِي التَّأْمِينَ، وَلَمْ يُعْطِ أَحَداً مِنَ النَّبِيِّينَ قَبْلِي، إلاَّ أَنْ يَكُونَ الله تَعَالَى أعطاهُ لِهَارُونَ، يَدْعُو مُوسَى، وَيُؤَمِّنُ هَارُونُ»‏.‏ قال مقاتل‏:‏ فمكث موسى بعد هذه الدعوة أربعين سنة، وهكذا روى الضَّحَّاك أن الإجابة ظهرت بعد أربعين سنة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ بعد أربعين يوماً‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هذا الدعاء حين خرج موسى ببني إسرائيل، وأيس من إيمانهم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاستقيما‏}‏ أي‏:‏ على الرِّسالة والدَّعوة ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ طريق فرعون، وآله من أهل مصر‏.‏ وروى ابن ذكوان، عن ابن عامر، أنه قرأ‏:‏ ‏{‏تَتَّبِعَانّ‏}‏ بجزم التاء ونصب الباء‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏تَتَّبِعَانّ‏}‏ بنصب التاء، والتشديد، وكسر الباء‏.‏ ومعناهما واحد وهذه النون أُدْخِلَتْ مؤكدة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 93‏]‏

‏{‏وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏90‏)‏ آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏91‏)‏ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ‏(‏92‏)‏ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

ثمّ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إسراءيل البحر‏}‏، يعني‏:‏ بحر قلزم‏.‏ ويقال‏:‏ هو نهر مصر، وهو النيل‏.‏ ‏{‏فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ‏}‏ يعني‏:‏ لحقهم‏.‏ وقال القتبي‏:‏ أتبعت القوم‏:‏ أي لحقتهم، وتبعتهم‏:‏ كنت في أثرهم‏.‏ ثمَّ قال‏:‏ ‏{‏بَغْيًا وَعَدْوًا‏}‏ يعني‏:‏ تكبُّراً وَعَدواً، يعني‏:‏ ظلماً‏.‏ ويقال‏:‏ بغياً في المقالة حيث قال‏:‏ ‏{‏ءانٍ * لِهَؤُلاء ***** لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ‏}‏ وَعدواً‏:‏ يعني‏:‏ اعتدوا عليهم وأرادوا قتلهم ‏{‏حتى إِذَا أَدْرَكَهُ الغرق‏}‏ يعني‏:‏ كربة الموت‏.‏ ويقال‏:‏ ألجمه الماء‏.‏ ويقال‏:‏ بلغه الموت والأجل، وذلك أن بني إسرائيل لما رأوا فرعون ومن معه، قالوا‏:‏ هذا فرعون، وقد كنا نلقى منه ما نلقى، فكيف بنا وأين المخرج في البحر‏؟‏ فأوحى الله إلى موسى ‏{‏فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 63‏]‏ فضرب، فصار اثني عشر طريقاً يابساً‏.‏ فلمّا انتهى فرعون إلى البحر، فرآه قد يبس فقال لقومه‏:‏ إن البحر قد يبس خوفاً مني فصدّقوه، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 79‏]‏ ولما جاوز قوم موسى، ودخل قوم فرعون، فلما هَمَّ أولهم أن يخرج من البحر، ودخل آخرهم، طم عليهم البحر فغرَّقهم و‏{‏قَالَ‏}‏ فرعون عند ذلك‏:‏ ‏{‏وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إسراءيل البحر فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا * إسراءيل‏}‏ قرأ حمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ بالكسر على معنى الابتداء الباقون بالنصب، على معنى البناء‏.‏ يعني‏:‏ صدّقت بأنه لا إله إلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ ‏{‏وَأَنَاْ مِنَ المسلمين‏}‏ على دينهم‏.‏ ويقال‏:‏ أنا من المخلصين على التوحيد‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ‏}‏ يعني‏:‏ أتُؤمن في هذا الوقت حين عاينت العذاب، وقد عصيت قبل نزول العذاب‏؟‏ وهذا موافق لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّى تُبْتُ الان وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أولئك أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 18‏]‏ الآية‏.‏ ويقال‏:‏ إن جبريل هو الذي قال له‏:‏ ‏{‏ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ‏}‏، ‏{‏وَكُنتَ مِنَ المفسدين‏}‏ يعني‏:‏ من الكافرين‏.‏ قال الفقيه أبو الليث، حدثنا الفقيه أبو جعفر، قال‏:‏ حدثنا علي بن أحمد، قال‏:‏ حدثنا نصر بن يحيى، قال‏:‏ حدثنا أبو مطيع، عن الحسن بن دينار، عن حميد بن هلال، قال‏:‏ كان جبريل عليه السلام يناجي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له ذات يوم‏:‏ يا محمد ما غاظني عبد من عباد الله تعالى مثلما غاظني فرعون‏.‏ لمّا أدركه الغرق، قَالَ‏:‏ ‏{‏وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إسراءيل البحر فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا * إسراءيل‏}‏ فخشيت أن تدركه الرحمة، فضربت بيدي إلى البحر، فأخذت كفاً من حمئه، وربما قال‏:‏ من طينه، فكبسته في فيه، فما نبس بكلمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاليوم نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ‏}‏ أي نخرجك من البحر بجسدك‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ نلقيك على نجوة من الأرض، والنجوة من الأرض‏:‏ ما ارتفع منها ‏{‏لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَةً‏}‏ يعني‏:‏ عبرة لمن بعدك من الكفَّار، لكيلا يدَّعوا الربوبية‏.‏ وقال قتادة‏:‏ لمّا أغرق الله فرعون، لم تصدق طائفة من الناس بذلك، فأخرجه الله تعالى ليكون لهم عظة وآية‏.‏ ‏{‏فاليوم نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ‏}‏ يعني‏:‏ عن هلاك فرعون ‏{‏لغافلون‏}‏ فلا يخافون، ولا يعتبرون‏.‏

ثمّ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِى إسراءيل‏}‏ يعني‏:‏ أنزلنا بني إسرائيل ‏{‏مُبَوَّأَ صِدْقٍ‏}‏ يعني‏:‏ منزل صدق، وهو أرض مصر، وذلك أن الله تعالى قد وعد لهم بأن يورِّثهم أرض مصر، فلما غرق فرعون، رجع موسى عليه السلام ببني إسرائيل، إلى أرض مصر، فنزلوا بها وسكنوا الدِّيار‏.‏ ويقال‏:‏ مبوأ صدق يعني‏:‏ أرضاً كريمة، يعني‏:‏ أرض أردن وفلسطين‏.‏ ويقال‏:‏ منزل حسن‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أرض الشام‏.‏ ويقال‏:‏ الأرض المقدسة‏.‏

‏{‏وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات‏}‏ يعني‏:‏ من ميراث أهل مصر، وأهل الشام‏.‏ ‏{‏فَمَا اختلفوا حتى جَاءهُمُ العلم‏}‏ فما اختلفوا في الدين حتى جاءهم البيان، يعني‏:‏ جاءهم موسى عليه السلام بعلم التوراة، فاختلفوا من بعد يوشع بن نون‏.‏ ويقال فما اختلفوا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم حتى جاءهم العلم، يعني‏:‏ خرج النبي صلى الله عليه وسلم وجاءهم بالقرآن، لأنهم لم يزالوا مؤمنين به، وذلك أنهم يجدونه مكتوباً عندهم، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم جحدوا به بعد العلم‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ من الذين آمن بعضهم، وكفر بعضهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 98‏]‏

‏{‏فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏94‏)‏ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏95‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏96‏)‏ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏97‏)‏ فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ‏(‏98‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ‏}‏ من القرآن، ‏{‏فَاسْأَلِ الذين *** يَقْرَءونَ **الكتاب مِن قَبْلِكَ‏}‏ يعني‏:‏ مؤمني أهل التوراة‏.‏ وذلك أن كُفّار قريش، قالوا‏:‏ إنّ هذا الوحي يلقيه إليه الشيطان، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ‏}‏ فسيخبرونك أنه مكتوب عندهم في التوراة‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا أسْأَلُ أحَداً، وَلا أشُكُّ فِيهِ، بَلْ أشُهَدُ أنَهُ الحَقُّ»‏.‏ وقال القتبي‏:‏ فيه تأويلان، أحدهما‏:‏ أن تكون المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد فيه غيره من الشُّكّاك، لأن القرآن نزل عليه بمذاهب العرب وهم يخاطبون الرجل بشيء، ويريدون به غيره، كما قالوا‏:‏ إيَّاك أعني واسمعي يا جارية‏.‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا النبى اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏ أراد به الأمة، يدل عليه قوله تعالى في آخره‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كذلك كُنتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 94‏]‏‏.‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 45‏]‏‏.‏ ووجه آخر‏:‏ أن النّاس كانوا على ثلاث مراتب، منهم من كان مؤمناً، ومنهم من كان كافراً، ومنهم من كان شاكاً، وإنَّما خاطب بهذا الشَّاكَّ‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جَاءكَ الحق مِن رَّبّكَ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين‏}‏ يعني‏:‏ من الشاكين، ‏{‏وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بآيات الله‏}‏ يعني‏:‏ بالكتاب، وبالرسالات ‏{‏فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين‏}‏، يعني‏:‏ من المغبونين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ‏}‏، يعني‏:‏ وجبت عليهم كلمة ربك بالسخط، وقدّر عليهم الكفر، ‏{‏لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا يُصَدِّقونَ بالقرآن أنه من الله تعالى، ‏{‏وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ علامة ‏{‏حتى يَرَوُاْ العذاب الاليم‏}‏ يعني‏:‏ الهلاك في الدُّنيا، والعذاب في الآخرة‏.‏ قرأ نافع، وابن عامر‏:‏ ‏{‏كلمات * رَبَّكَ‏}‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏وَأَوْرَثْنَا القوم‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ‏}‏ يقول‏:‏ لم يكن أهل قرية كافرة آمنت عند نزول العذاب ‏{‏فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا‏}‏ وقبل منها الإيمان، ودفع عنهم العذاب ‏{‏إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ‏}‏‏.‏ قال مقاتل‏:‏ فلولا، على ثلاثة أوجه‏:‏ الأول يعني‏:‏ فلم، مثل قوله‏:‏ ‏{‏فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ‏}‏ ‏{‏فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون‏}‏‏.‏ الثاني‏:‏ فلولا يعني‏:‏ فهلاّ كقوله‏:‏ ‏{‏فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 43‏]‏ ‏{‏فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 86‏]‏ والثالث‏:‏ فلولا يعني‏:‏ فلوما، كقوله‏:‏

‏{‏وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الامن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِى الامر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 83‏]‏ ‏{‏فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 143‏]‏‏.‏

ويقال‏:‏ فلولا هاهنا، بمعنى فهلا كانت قرية آمنت، فنفعها إيمانها‏.‏ ومعناه فهلاّ آمنت في وقت ينفعها إيمانها‏.‏ فأعلم الله تعالى، أن الإيمان لا ينفع عند نزول العذاب، ثمّ قال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ‏}‏ معناه‏:‏ لكن قوم يونس ‏{‏لَمَّا ءامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ آمنوا قبل المعاينة، فكشفنا عنهم‏.‏ وروى ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال‏:‏ ‏{‏فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا‏}‏ كما نفع قوم يونس‏.‏ وعن قتادة‏:‏ إنَّ قوم يونس عليه السلام خرجوا ونزلوا على تل، فدعوا الله تعالى أربعين ليلة، حتى تاب الله عليهم‏.‏ وروي عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنَّ يونس بعثه الله تعالى إلى قومه، فدعاهم إلى عبادة الله تعالى، وترك ما هم فيه من الكفر، فأبوا، فدعا ربه فقال‏:‏ يا رب قد دعوتهم، فأبوا‏.‏ فأوحى الله تعالى إليه أن ادعهم، فإن أجابوك وإلا فأعلمهم أن العذاب يأتيهم إلى ثلاثة أيام‏.‏ فدعاهم فلم يجيبوه، فأخبرهم بالعذاب، فقالوا‏:‏ ما جربنا عليه كذباً مذ كان معنا، فإن لم يلبث معكم، وخرج من عندكم، فاحتالوا لأنفسكم‏.‏ فلمّا كان بعض الليل خرج يونس من بينهم، فلما كان اليوم الثالث رأوا حمرة وسواداً في السماء، كهيئة النار والدخان، فظنُّوا أن العذاب نازل بهم، فجعلوا يطلبون يونس عليه السلام فلم يجدوه، فلما كان آخر النهار أيسوا من يونس‏.‏ وجعل يهبط السواد والحمرة، فقال قائل منهم‏:‏ إن لم تجدوا يونس عليه السلام فإنكم تجدون رب يونس، فادعوه، وتضرعوا إليه‏.‏

فخرجوا من القرية إلى الصحراء، وأخرجوا النساء والصبيان والبهائم، وفرقوا بين كل إنسان وولده، وبين كل بهيمة وولدها، ثمّ عجوا إلى الله تعالى مؤمنين، مصدقين‏.‏ وارتفعت أصوات الرجال والنساء والصبيان، وخوار البهائم وأولادها، واختلطت الأصوات، وقربت منهم الحمرة والدخان، حتى غشي السواد سطوحهم، وبلغهم حرُّ النار‏.‏ فلما عرف الله تعالى منهم صدق التوبة، رفع عنهم العذاب بعدما كان غشيهم، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ‏}‏ يعني‏:‏ لم يكن أهل قرية آمَنَتْ ‏{‏فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا‏}‏ عند نزول العذاب ‏{‏فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا‏}‏ يعني‏:‏ صدّقوا بالألسن والقلوب، عرف الله تعالى منهم الصدق، ‏{‏كَشَفْنَا عَنْهُمُ‏}‏ يعني‏:‏ رفعنا وصرفنا‏.‏

‏{‏عَذَابَ الخزى فِى الحياة الدنيا‏}‏ يعني‏:‏ عذاب الهون، ‏{‏وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ‏}‏ يعني‏:‏ إلى منتهى آجالهم‏.‏ وفي هذه الآية تخويف وتهديد لكفار مكة، ولجميع الكفار إلى يوم القيامة، أنهم إن لم يؤمنوا ينزل بهم العذاب، فلا ينفعهم إيمانهم عند نزول العذاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 103‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏99‏)‏ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏100‏)‏ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏101‏)‏ فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏102‏)‏ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الارض كُلُّهُمْ جَمِيعًا‏}‏ يعني‏:‏ وفَّقهم لذلك وهداهم‏.‏ ويقال‏:‏ في الآية مضمر‏.‏ ومعناه‏:‏ ولو شاء ربك أن يؤمنوا، لآمنوا كلهم جميعاً‏.‏ ‏{‏أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس‏}‏ يعني‏:‏ الكفار ‏{‏حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ويقال‏:‏ هو عمه أبو طالب‏.‏ ولها وجه آخر‏:‏ ولو شاء ربك، لأراهم علامة لأضطروا إلى الإيمان، كما فعل بقوم يونس، ولكن لم يفعل ذلك لأن الدنيا دار ابتلاء ومحنة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏}‏ يعني‏:‏ بإرادة الله تعالى، وتوفيقه ‏{‏وَيَجْعَلُ الرجس‏}‏ يعني‏:‏ الكفر ‏{‏عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يترك حلاوة الكفر في قلوب الذين لا يرغبون في الإيمان‏.‏ ويقال‏:‏ ويجعل الرجس، يعني‏:‏ الإثم‏.‏ ويقال‏:‏ الرجس يعني‏:‏ العذاب‏.‏ قرأ عاصم، في رواية أبي بكر‏:‏ ‏{‏وَنَجْعَلُ *** الرجس‏}‏ بالنون، وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏وَيَجْعَلَ‏}‏ بالياء‏.‏ ثمّ أخبر أنه لا عذر لمن تخلّف عن الإيمان؛ لأنه قد بيّن العلامات، وهو قوله‏:‏ ‏{‏قُلِ انظروا مَاذَا فِى *** السموات‏}‏ من الدلائل، من الشمس، والقمر، والنجوم، ‏{‏***وَ‏}‏ ما في ‏{‏وَفِى الارض‏}‏، من الجبال، والبحار، والأشجار، والثمار، فاعتبروا به‏.‏

ثم قال حين لم يعتبروا به‏:‏ ‏{‏وَمَا تُغْنِى الآيات‏}‏ ما تنفع العلامات، التي في السموات والأرض ‏{‏والنذر‏}‏ يعني‏:‏ الرسل ‏{‏عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا يرغبون في الإيمان، ولا يطلبون الحق‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ لا تنفع الآيات والرسل عن قوم قد قُدِّر عليهم أنهم لا يؤمنون‏.‏ ويقال‏:‏ عَنْ هاهنا صلة، ومعناه‏:‏ وما تغني الآيات والنذر قوماً لا يؤمنون، يعني‏:‏ علم الله في الأزل أنهم لا يؤمنون‏.‏

ثم خَوَّفَهُمْ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ أن يصيبهم العذاب، مثل ما أصاب الأمم الخالية‏.‏ ‏{‏قُلْ فانتظروا‏}‏ يعني‏:‏ انتظروا العذاب ‏{‏إِنّى مَعَكُم مّنَ المنتظرين‏}‏‏.‏ ويقال انتظروا لهلاكي، فإني معكم من المنتظرين بهلاككم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا‏}‏ يعني‏:‏ أنجيناهم من العذاب والهلاك، ‏{‏والذين ءامَنُواْ‏}‏ معهم‏.‏ انصرف هذا إلى قوله‏:‏ ‏{‏مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ * ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا‏}‏ يعني‏:‏ أنجيناهم من العذاب، والذين آمنوا‏.‏ يعني‏:‏ أنجيناهم معهم‏.‏ ومعناه‏:‏ إذا جاءهم العذاب ينجي الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم، ومن آمن معه، كما أنجى سائر الرسل، والذين آمنوا معهم‏.‏ ‏{‏كَذَلِكَ حَقّا عَلَيْنَا‏}‏ يعني‏:‏ هكذا واجب علينا ‏{‏نُنجِ المؤمنين‏}‏ من العذاب‏.‏ قرأ الكسائي، وعاصم في رواية حفص‏:‏ ‏{‏ثُمَّ نُنَجّى‏}‏‏.‏ بجزم النون وتخفيف الجيم، وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏نُنَجّى‏}‏ بالنصب والتشديد‏.‏ وكذلك في قوله ‏{‏نُنجِ‏}‏ الْمُؤْمِنينَ ومعناها واحد‏:‏ نجيته، وأنجيته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 107‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏104‏)‏ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏105‏)‏ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏106‏)‏ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏107‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ ياأهل * أَيُّهَا الناس‏}‏ يعني‏:‏ يا أهل مكة، وذلك حين دعوه إلى دين آبائهم، فقال‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى‏}‏ الإسلام، وترجون أن أرجع إلى دينكم، وأترك هذا الدين فلا أفعل ذلك‏.‏ وهو قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ من الآلهة، ويقال، معناه‏:‏ إن كنتم في شك من ديني، فأنا مستيقن في دينكم ومعبودكم أنهما باطلان، ‏{‏فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏‏.‏ ‏{‏ولكن أَعْبُدُ الله‏}‏ يعني‏:‏ أوحده وأطيعه ‏{‏الذى يتوفاكم‏}‏ يعني‏:‏ يميتكم عند انقضاء آجالكم ‏{‏وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين‏}‏ يعني‏:‏ من الموقنين على دينهم، ولا أرجع عن ذلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ‏}‏ يعني‏:‏ إنَّ الله تعالى، قال لي في القرآن‏:‏ أن أخلص عملك ودينك ‏{‏لِلدّينِ حَنِيفاً‏}‏ يعني‏:‏ استقم على التوحيد مخلصاً ‏{‏وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين‏}‏ أو يقال‏:‏ وأمرت أن أكون من المسلمين‏.‏

إلى هاهنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك للكفار، وقد تمّ الكلام إلى هذا الموضع‏.‏ ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم بهذا أمرتك ‏{‏وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا‏}‏ يعني‏:‏ وأمرتك أن تخلص عملك دينك للدين حنيفاً، يعني‏:‏ استقم على ذلك‏.‏ والحنف في اللغة، هو الميل والإقبال إلى شيء، لا يرجع عنه أبداً، لهذا سُمِّيَ الرجل أحنف، إذا كان أصابع رجليه مائلاً بعضها إلى بعض‏.‏

ثمّ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ الله‏}‏ يعني‏:‏ لا تعبد غير الله ‏{‏مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ‏}‏ يعني‏:‏ ما لا ينفعك إن عبدته، ولا يضرك إن عصيته، وتركتَ عبادته، ‏{‏فَإِن فَعَلْتَ‏}‏ ذلك، يعني‏:‏ فإن عبدت غير الله ‏{‏فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظالمين‏}‏ يعني‏:‏ من الضَّارِّين بنفسك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ‏}‏ يعني‏:‏ إن يُصِبْكَ الله بشدة أو بلاء ‏{‏فَلاَ كاشف لَهُ إِلاَّ هُوَ‏}‏، يعني‏:‏ لا دافع لذلك الضر إلا هو‏.‏ يعني‏:‏ لا تقدر الأصنام على دفع الضر عنك ‏{‏وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ‏}‏ يعني‏:‏ إن يُصِبْكَ بسعة في الرزق وصحة في الجسم، ‏{‏فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ‏}‏ يعني‏:‏ لا مانع لعطائه‏.‏ ‏{‏يُصَيبُ بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ بالفضل ‏{‏مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ مَنْ كان أهلاً لذلك‏.‏ ‏{‏وَهُوَ الغفور‏}‏ لذنوب المؤمنين، ‏{‏الرحيم‏}‏ بهم‏.‏

فأعلم الله تعالى أنه كاشف الضر، ومعطي الفضل في الدنيا، وهو الغفور للمؤمنين، الرحيم بقبول حسناتهم‏.‏ قال الفقيه أبو الليث، حدثنا محمد بن الفضل، قال‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر، قال‏:‏ حدثنا إبراهيم بن يوسف، قال‏:‏ حدثنا شيخ بصري عن الحسن، أنه قال‏:‏ قال عامر بن عبد قيس‏:‏ ما أبالي ما أصابني من الدنيا وما فاتني منها، بعد ثلاث آيات ذكرهن الله تعالى في كتابه قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ‏}‏ ‏{‏مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 2‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الارض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 6‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 109‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏108‏)‏ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ ياأهل * أَيُّهَا الناس‏}‏ يعني‏:‏ يا أهل مكة ‏{‏قَدْ جَاءكُمُ الحق مِن رَّبّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ محمداً صلى الله عليه وسلم والقرآن، ‏{‏فَمَنُ اهتدى‏}‏ يعني‏:‏ من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، ‏{‏فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ‏}‏ يعني‏:‏ ثوابه لنفسه، ‏{‏وَمَن ضَلَّ‏}‏ يعني‏:‏ ومن كفر ولم يؤمن، ‏{‏فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا‏}‏ يعني‏:‏ جنايته على نفسه، وإثم الضلالة على نفسه، ‏{‏وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ‏}‏ يعني‏:‏ لست عليكم بمسلط، وهذا قبل الأمر بالقتال‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ‏}‏ يعني‏:‏ إن لم يصدقوك، فاعمل بما أنزل إليك من القرآن، ‏{‏واصبر‏}‏ على تكذيبهم، ‏{‏حتى يَحْكُمَ الله‏}‏ يعني‏:‏ يقضي الله تعالى بعذابهم، في الدنيا وفي الآخرة، ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين‏}‏ يعني‏:‏ أعدل العادلين‏.‏ ويقال‏:‏ واصبر حتى يحكم الله، يعني‏:‏ حتى يأمر الله المؤمنين بقتالهم‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏فَمَنُ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ‏}‏ يعني‏:‏ من اجتهد حتى اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ‏{‏وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا‏}‏ يعني‏:‏ ومن تغافل عن الحق حتى ضل فعقوبته عليها والله أعلم‏.‏

سورة هود

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ‏(‏1‏)‏ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ‏(‏2‏)‏ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏الر‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني‏:‏ أنا الله أرى، ويقال‏:‏ الألف آلاؤه، واللام لطفه، والراء ربوبيته‏.‏ ‏{‏كِتَابٌ‏}‏ يعني‏:‏ هذا الكتاب، وهو القرآن ‏{‏الر كِتَابٌ‏}‏ من الباطل، فلم يوجد فيه عوج ولا تناقض‏.‏ ‏{‏ثُمَّ فُصّلَتْ‏}‏ يعني‏:‏ بيَّن أمره ونهيه‏.‏ وقال الحسن‏:‏ أحكمت آياته بالأمر والنهي، وفصلت بالوعد والوعيد، والثواب والعقاب‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ فصلت أي فُسِّرت‏.‏ وقال القتبي‏:‏ أحكمت، فلم تنسخ، ثم فُصّلت بالحلال والحرام‏.‏ ويقال‏:‏ فصلت، أي‏:‏ أنزلت شيئاً بعد شيء، فلم تنزل جملة واحدة‏.‏

‏{‏مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ‏}‏ يعني‏:‏ أنزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى حكيم في أمره، خبير بالعباد وبأعمالهم، ‏{‏أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله‏}‏ يعني‏:‏ نزل جبريل بالقرآن، وقد بيَّنَ فيه، ألا توحدوا ولا تطيعوا غير الله، ‏{‏إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ‏}‏ يعن ي‏:‏ قل لهم يا محمد إنني لكم من الله تعالى ‏{‏نَّذِيرٍ‏}‏ يعني‏:‏ مخوف من عذابه للكافرين، ‏{‏وَبَشِيرٌ‏}‏ بالجنة للمؤمنين‏.‏ ‏{‏وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ وآمركم أن تستغفروا ربكم من الذنوب ‏{‏ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ‏}‏ يعني‏:‏ وتوبوا إليه من الشرك والذنوب ‏{‏يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا‏}‏ يعني‏:‏ يُعَيِّشْكُمْ في الدنيا عيشاً حسناً في خير وعافية، ‏{‏إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ إلى منتهى آجالكم‏.‏ وقال القتبي‏:‏ أصل الإمتاع الإطالة، يقال‏:‏ حبل ماتع وقد متع النهار إذا طال‏.‏ يمتعكم، يعني‏:‏ يُعَمِّركم، ويقال‏:‏ يمتعكم متاعاً حسناً يعني‏:‏ يجعلكم راضين بما يعطيكم‏.‏ ويقال ويجعل حياتكم في الطاعة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ‏}‏ يعني‏:‏ يعطي في الآخرة كل ذي فضل في العمل في الدنيا فضله، في الآخرة في الدرجات‏.‏ وروى جويبر، عن الضحاك، قال‏:‏ يؤت كل ذي عمل ثواب عمله‏.‏ وقال سعيد بن جبير، في قوله‏:‏ ‏{‏وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ‏}‏ قال‏:‏ من عمل حسنة كتبت عشر حسنات، ومن عمل سيئة كتبت عليه سيئة واحدة، فإن لم يعاقب بها في الدنيا، أُخذ من العشرة واحدة، وبقيت له تسع حسنات‏.‏ ثم قال ابن مسعود رضي الله عنه هلك من غلب آحاده أعشاره‏.‏

‏{‏وَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏ يعني‏:‏ أعرضوا عن الإيمان ‏{‏فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ قل لهم يا محمد‏:‏ إني أخاف عليكم ‏{‏عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ‏}‏ يعني‏:‏ القحط‏.‏ قال مقاتل‏:‏ فحبس الله تعالى عنهم المطر سبع سنين حتى أكلوا الموتى‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ‏}‏، يعني‏:‏ عذاب النار يوم القيامة‏.‏ ويقال‏:‏ إنّي أخاف، يعني‏:‏ أعلم، فيوضع الخوف موضع العلم لأن فيه طرفاً من العلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 7‏]‏

‏{‏إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏4‏)‏ أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏5‏)‏ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏6‏)‏ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إلى الله مَرْجِعُكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ مصيركم في الآخرة ‏{‏وَهُوَ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ يعني‏:‏ هو قادر على بعثكم بعد الموت‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ يقول‏:‏ يكتمون ما في صدورهم من العداوة ‏{‏لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ‏}‏ يعني‏:‏ ليستروا ذلك منه ‏{‏أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ يلبسون ثيابهم، يعني‏:‏ حين يُغشي الرجل نفسه بثيابه، يعني‏:‏ ‏{‏يَعْلَمْ‏}‏ ما تحت ثيابه، ويعلم ‏{‏مَا يُسِرُّونَ‏}‏ من العداوات، ‏{‏وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ بألسنتهم‏.‏ قال الكلبي‏:‏ نزلت في شأن أخنس بن شريق‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ يلوون‏.‏ وذلك أن كفار مكة كانوا إذا سمعوا القرآن، نكسوا رؤوسهم على صدورهم، كراهية استماع القرآن، ‏{‏لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ‏}‏ يعني‏:‏ من النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال‏:‏ أخفى ما يكون الإنسان إذا أسر في نفسه شيئاً، وتغطى بثوبه، فبذلك أخفى ما يكون والله تعالى يطلع على ما في نفوسهم ‏{‏إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏ يعني‏:‏ ما في قلوب العباد من الخير والشر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الارض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا‏}‏ يعني‏:‏ إلا الله القائم على رزقها‏.‏ ويقال‏:‏ الله ضامن لرزقها‏.‏ ويقال‏:‏ يرزقها الله حيث ما تَوَجَّهَتْ‏.‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا‏}‏ يعني‏:‏ يعلم مستقرها حيث تأوي بالليل، ومستودعها حيث تموت، وتدفن‏.‏ وروي عن عبد الله بن مسعود، قال‏:‏ مستقرها الأرحام، ومستودعها الأرض التي تموت فيها‏.‏ وقال عبد الله‏:‏ إذا كان موت الرجل بأرض أتيت له حاجة، حتى إذا كان عند انقضاء أمده قبض، فتقول الأرض يوم القيامة‏:‏ هذا ما استودعتني‏.‏ وقال سعيد بن جبير، ومجاهد‏:‏ المستقر الرحم، والمستودع الصلب‏.‏ ‏{‏كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ‏}‏ يعني‏:‏ المستقر، والمستودع‏.‏ وبيان كل شيء، ورزق كل دابة، مكتوب في اللوح المحفوظ خلق من درة بيضاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذى خَلَقَ *** السموات والارض *** فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ‏}‏ قال ابن عباس يعني‏:‏ من أيام الآخرة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ من أيام الدنيا ‏{‏وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء‏}‏ قبل خلق السموات والأرض، لأنه لم يكن تحته شيء، سوى الماء‏.‏ قال‏:‏ حدثنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد، قال‏:‏ حدثنا فارس بن مردويه، قال‏:‏ حدثنا محمد بن الفضل، قال‏:‏ حدثنا أبو مطيع، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، قال‏:‏ بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام، وبين السماء السابعة وبين الكرسي مسيرة خمسمائة عام، وبين الكرسي وبين الماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، بِعُلِوِّهِ وقدرته يعلم ما أنتم فيه‏.‏

وروى أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أنس، قال‏:‏ كان عرشه على الماء، فلمَّا خلق الله تعالى السموات والأرض، قسم ذلك الماء قسمين‏.‏

فجعل نصفه تحت العرش وهو البحر المسجور، وجعل النصف الآخر تحت الأرض السفلى، وهو مكتوب في الكتاب الأول، ويسمى اليم‏.‏

وعن سعيد بن جبير، قال‏:‏ سئل ابن عباس عن قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء‏}‏ على أي شيء كان الماء‏؟‏ قال‏:‏ على متن الريح‏.‏ ويقال كان عرشه على الماء، يعني‏:‏ فوق الماء كقولك السماء فوق الأرض، لا أنه ملتزق بالماء‏.‏

‏{‏لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏ يعني‏:‏ ليختبركم أيكم أحسن أي أخلص عملاً، وأزهد في الدنيا‏.‏ والاختبار من الله تعالى، هو إظهار ما يعلم من خلقه‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة ‏{‏لَّيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ يعني‏:‏ أهل مكة ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ ما هذا إلا كذب بين حيث يخبرنا أنه يكون البعث‏.‏ قرأ حمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏ساحر * مُّبِينٌ‏}‏ بالألف، وقرأ الباقون ‏{‏سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ بغير ألف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 14‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏8‏)‏ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ ‏(‏9‏)‏ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ‏(‏10‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏12‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏13‏)‏ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ سنيناً معلومة، يعني‏:‏ إلى الوقت الذي جعل أجلهم‏.‏ وقال القتبي‏:‏ يعني‏:‏ إلى حين بغير توقيت، وقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الذى نَجَا مِنْهُمَا وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 45‏]‏ إنما هو سبع سنين ‏{‏لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ‏}‏ يعني‏:‏ العذاب، على وجه الاستهزاء، ‏{‏أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ العذاب ‏{‏لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ليس أحد يصرف العذاب عنهم، إذا نزل بهم في الدنيا وفي الآخرة‏.‏ ‏{‏وَحَاقَ بِهِم‏}‏ يعني‏:‏ نزل بهم ‏{‏مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً‏}‏ يعني‏:‏ أصبنا الإنسان منا رحمة، يعني‏:‏ نعمة وخيراً وعافية ‏{‏ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ‏}‏ يعني‏:‏ آيس من رحمة الله، كفور بنعم الله تعالى، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء‏}‏ يعني‏:‏ أعطيناه خيراً، وعافية، وسعة في الرزق ‏{‏بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ‏}‏ يعني‏:‏ أصابته ‏{‏لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عَنّي‏}‏ يعني‏:‏ لا يشكر الله تعالى‏.‏

ذكر في الابتداء ‏{‏لَّيَقُولَنَّ‏}‏ بنصب اللام بلفظ الواحد، لتقديم الفعل على الاسم، وفي الثاني بضم اللام لأنه فعل الجماعة، ولم يذكر الاسم، وفي الثالث بنصب اللام لأنه فعل الواحد‏.‏ ويقول‏:‏ ذهب السيئات عني ‏{‏إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ‏}‏ يعني‏:‏ بطراً فرحاً بما أعطاه الله تعالى، وهو الطغيان في النعمة، فخور في نعم الله تعالى، ومتكبر على الناس‏.‏

ثم استثنى، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذين صَبَرُواْ‏}‏، وهم المؤمنون الذين صبروا على الطاعات، والشدائد ليسوا كذلك، وليسوا من أهل هذه الصفة، إذا ابتلوا صبروا وإذا أعطوا شكروا ‏{‏وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ بينهم وبين ربهم ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ‏}‏ لذنوبهم في الدنيا ‏{‏وَأَجْرٌ كَبِيرٌ‏}‏ يعني‏:‏ ثواباً عظيماً في الجنة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ‏}‏ يعني‏:‏ لا تترك ‏{‏بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ‏}‏ وذلك أن كفار مكة‏.‏ قالوا‏:‏ كيف لا ينزل إليه ملك، أو يكون له كنز وطلبوا منه بأن لا يعيب آلهتهم، فهمَّ النبي صلى الله عليه وسلم بأن يترك عيبها، رجاء أن يتبعوه، فنزل‏:‏ ‏{‏فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ‏}‏ من أمر الآلهة ‏{‏وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ‏}‏ في البلاغ، ‏{‏أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ‏}‏ يعني‏:‏ المال، ‏{‏أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ‏}‏ يُعِينُهُ ويُصَدِّقُهُ فأمر بأن لا يترك تبليغ الرسالة، فقال‏:‏ يا محمد، ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ‏}‏ يعني‏:‏ إنما عليك تبليغ الرسالة، والتخويف‏.‏ ‏{‏والله على كُلّ شَئ وَكِيلٌ‏}‏ يعني‏:‏ شهيد بأنك رسول الله تعالى، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افتراه‏}‏ يعني‏:‏ أيقولون والميم صلة افتراه، يعني‏:‏ اختلقه من تلقاء نفسه‏.‏

‏{‏قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ‏}‏ يعني‏:‏ مختلقات‏.‏

قال الكلبي‏:‏ يعني‏:‏ بعشر سور مثل سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والتوبة، ويونس‏.‏ وهود لأن العاشرة هي سورة هود‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هذا التفسير لا يصح، لأن سورة هود مكية، والبقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة مدنيات، أُنْزِلَتْ بعد سورة هود بمدة طويلة‏.‏ ولكن معناه فأتوا بعشر سور مثل سور القرآن، أي سورة كانت، مفتريات، يعني‏:‏ مختلقات إن كنتم تزعمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم يختلقه من ذات نفسه، ‏{‏وادعوا مَنِ استطعتم مّن دُونِ الله‏}‏ يعني‏:‏ استعينوا بآلهتكم ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ في مقالتكم‏.‏

فسكتوا، فلم يجيبوا، فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ * لَكُمْ‏}‏ فإن لم يجيبوك، خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الجماعة، كما قال‏:‏ ‏{‏ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51‏]‏ ويقال‏:‏ أراد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ‏{‏فاعلموا أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ الله‏}‏ يقال‏:‏ فاعلموا يا أهل مكة، إنما أُنزل بعلم الله، يعني‏:‏ أنزل جبريل هذا القرآن بإذن الله تعالى وبأمره‏.‏ وقال القتبي‏:‏ بعلم الله، يعني‏:‏ من علم الله والباء مكان من‏.‏

ثمّ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ يعني‏:‏ فاعلموا أن لا إله إلا هو، يعني‏:‏ إن الله تعالى هو منزل الوحي، وليس أحد ينزل الوحي غيره ‏{‏فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ مقرّين بأن الله أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم ويقال‏:‏ مخلصون بالتوحيد ويقال‏:‏ ‏{‏فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ‏}‏ هذا على وجه الأمر، يعني‏:‏ أسلموا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ‏(‏15‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا‏}‏ يعني‏:‏ من كان يريد بعمله الدنيا، ولا يريد به وجه الله‏.‏ ‏{‏نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا‏}‏ يعني‏:‏ ثواب أعمالهم في الدنيا ‏{‏وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا ينقص من ثواب أعمالهم شيء في الدنيا، ‏{‏أُوْلَئِكَ الذين لَيْسَ لَهُمْ فِى الاخرة إِلاَّ النار‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت هذه الآية في أهل القبلة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ نزلت في المنافقين والكافرين‏.‏

‏{‏وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا‏}‏ يعني‏:‏ ثواب أعمالهم في الدنيا، لأنه لم يكن لوجه الله تعالى‏.‏ ‏{‏وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ وروى أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ، صَارَتْ أُمَّتِي ثَلاثَ فِرَقٍ‏:‏ فِرْقَةً يَعْبُدُونَ الله تَعَالَى خَالِصاً، وَفِرْقَةً يَعْبُدُونَ الله تَعَالَى رِيَاءً، وَفِرْقَةً يَعْبُدُونَ الله تَعَالى لِيُصِيبُوا بِهَا الدُّنْيَا‏.‏ فَيَقُولُ الله تَعَالَى لِلّذِي كَانَ يَعْبُدُ الله لِلدُّنْيَا‏:‏ وَمَاذَا أَرَدْتَ بِعِبَادَتِكَ‏؟‏ فَيَقُولَ‏:‏ الدُّنْيَا‏.‏ فَيَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ لاَ جَرَمَ، وَلاَ يَنْفَعُكَ مَا جَمَعْتَ، وَلاَ تَرْجِعُ إِلَيْهِ‏.‏ وَيَقُولَ‏:‏ انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى النَّارِ، وَيَقُولُ لِلَّذِي كَانِ يَعْبُدُ الله رِياءً، مَاذَا أَرَدْتَ بِعَبَادِتكَ‏؟‏ فَيِقُولَ‏:‏ الرِّيَاءَ، فَيَقُولُ الله تَعَالَى‏:‏ انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى النَّارِ، وَيَقُولُ للَّذِي كَانَ يَعْبُدُ الله تَعَالىَ خَالِصاً‏:‏ مِاذَا أَرَدْتَ بِعِبَادَتِكَ‏؟‏ فِيَقُولُ أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، كُنْتُ أَعْبُدُكَ لِوَجْهِكَ وَذَاتِكَ‏.‏ قَالَ‏:‏ صَدَقَ عَبْدِي، انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى الجَنَّةِ»‏.‏